الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم
والظلمة مأخوذة من قولهم: ما ظلمك أن تفعل كذا، أي ما منعك، لأنها تسد البصرَ وتمنعه من الرؤية، وقرئ {في ظُلْمات} بسكون اللام، و{في ظلمة} بالتوحيد، ومفعول لا يبصرون من قبيل المطروح، كأن الفعل غير متعد، والمعنى أن حالهم العجيبة التي هي اشتراؤهم الضلالةَ التي هي عبارة عن ظلمتي الكفرِ والنفاقِ المستتبعتين لظُلمة سخط الله تعالى، وظلمةِ يوم القيامة: {يَوْمَ تَرَى المؤمنين والمؤمنات يسعى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وبأيمانهم}، وظلمةِ العقاب السرمدي بالهدى، الذي هو النورُ الفطري المؤيد بما شاهدوه من دلائل الحق أو بالهدى الذي كانوا حصّلوه من التوراة حسبما ذكر كحال من استوقد ناراً عظيمة حتى كاد ينتفع بها فأطفأها الله تعالى، وتركه في ظلمات هائلة لا يتسنى فيها الإبصار.
لما أن المقدر في النظم في حكم الملفوظ، لا من قبيل الاستعارة التي يطوى فيها ذكرُ المستعار له بالكلية، حتى لو لم يكن هناك قرينة تحمل على المعنى الحقيقي، كما في قول زهير: {فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ} الفاء للدلالة على ترتب ما بعدها على ما قبلها، أي هم بسبب اتصافِهم بالصفات المذكورة لا يعودون إلى الهدى الذي تركوه وضيّعوه أو عن الضلالة التي أخذوها، والآيةُ نتيجةٌ للتمثيل، مفيدةٌ لزيادة تهويلٍ وتفظيع، فإن قصارى أمرِ التمثيل بقاؤهم في ظلماتٍ هائلة من غير تعرضٍ لمَشْعَريْ السمع والنطق، ولاختلال مَشعَرِ الإبصار، وقيل الضمير المقدر وما بعده للموصول باعتبار المعنى، كالضمائر المتقدمة.فالآية الكريمة تتمة للتمثيل، وتكميل له بأن ما أصابهم ليس مجردَ انطفاء نارهم وبقائهم في ظلمات كثيفة هائلة، مع بقاء حاسة البصر بحالها، بل اختلت مشاعرُهم جميعاً، واتصفوا بتلك الصفات على طريقة التشبيه أو الحقيقة فبقوا جامدين في مكاناتهم، لا يرجعون ولا يدْرون أيتقدّمون أم يتأخرون، وكيف يرجِعون إلى ما ابتدأوا منه، والعدولُ إلى الجملة الاسمية للدَلالة على استمرار تلك الحالة فيهم، وقرئ {صماً بكماً عمياً}، إما على الذي كما في قوله تعالى: {حَمَّالَةَ الحطب} والمخصوصُ بالذم هم المنافقون، أو المستوقدون وإما على الحالية من الضمير المنصوب في تَرَكهم، أو المرفوع في لا يبصرون وإما على المفعولية لتركهم، فالضميران للمستوقدين.
ولعل الأول هو المراد هاهنا لاستلزامه الثاني، وتنكيره لما أنه أريد به نوع منه شديدٌ هائل كالنار في التمثيل الأول، وأُمِدَّ به ما فيه من المبالغات من جهة مادته الأولى التي هي الصادُ المستعليةُ والياء المشددة والباء الشديدة، ومادتِه الثانية أعني الصَّوْب المنبىء عن شدة الانسكاب، ومن جهة بنائه الدال على الثبات، وقرئ {أو كصائب} {مّنَ السماء} متعلق بصيب، أو بمحذوفٍ وقع صفة له، والمرادُ بالسماء هذه المِظلة، وهي في الأصل كلُّ ما علاك من سقف ونحوه، وعن الحسن أنها موجٌ مكفوف، أي ممنوع بقدرة الله عز وجل من السيلان، وتعريفها للإيذان بأن انبعاث الصيب ليس من أفق واحد، فإن كل أفق من آفاقها أي كلَّ ما يحيط به كلُّ أفقٍ منها سماءٌ على حِدَة، قال: كما أن كل طبقة من طباقها سماء، قال تعالى: {وأوحى فِي كُلّ سَمَاء أَمْرَهَا} والمعنى أنه صيّب عام نازل من غمام مطبِقٍ آخذٍ بالآفاق، وقيل المراد بالسماء السحاب، واللام لتعريف الماهية.{فِيهِ ظلمات} أي أنواع منها، وهي ظُلمةُ تكاثُفِه وانتساجِه بتتابع القطر، وظلمةُ الهلال ما يلزمه من الغمام الأسحمِ المطبق الآخذ بالآفاق مع ظلمة الليل، وجعلُه محلاً لها مع أن بعضها لغيره كظلمتي الغمام والليل، لما أنهما جُعلتا من توابع ظلمتِه مبالغةً في شدته وتهويلاً لأمره، وإيذاناً بأنه من الشدة والهول بحيث تغمر ظلمتُه ظلماتِ الليل والغمام، وهو السر في عدم جعل الظلمات هي الأصلَ المستتبعَ للبواقي، مع ظهور ظرفيتها للكل، إذ لو قيل أو كظلمات فيها صيب إلخ لما أفاد أن للصيب ظلمةً خاصة به فضلاً عن كونها غالبة على غيرها.{وَرَعْدٌ} وهو صوت يسمع من السحاب، والمشهور أنه يحدث من اصطكاك أجرام السحاب بعضِها ببعض، أو من انقلاع بعضِها عن بعض عند اضطرابها، بسوق الرياحِ إياه سوقاً عنيفاً {وَبَرْقٌ} وهو ما يلمع من السحاب من بَرَق الشيءُ بريقاً أي لمع، وكلاهما في الأصل مصدر، ولذلك لم يجمعا، وكونُهما في الصيب باعتبار كونِهما في أعلاه ومصبِّه ووصول أثرِهما إليه وكونِهما في الظلمات الكائنةِ فيه، والتنوين في الكل للتفخيم والتهويل كأنه قيل: فيه ظلماتٌ شديدة داجية ورعدٌ قاصفٌ وبرق خاطف، وارتفاع الجميع بالظرف على الفاعلية لتحقيق شرط العملِ بالاتفاق، وقيل بالابتداء، والجملةُ إما صفةٌ لصيب أو حالٌ منه لتخصصه بالصفة، أو بالعمل فيما بعده من الجار أو من المستكنّ في الظرف الأول على تقدير كونِه صفةً لصيب، والضمائر في قوله عز وجل: {يَجْعَلُونَ أصابعهم فِي ءاذَانِهِم} للمضاف الذي أقيم مُقامه المضافُ إليه فإن معناه باقٍ وإن حذف لفظه تعويلاً على الدليل كما في قوله: {وَكَم مّن قَرْيَةٍ أهلكناها فَجَاءهَا بَأْسُنَا بياتا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ} فإن الضمير للأهل المدلول عليه بما قام مقامه من القرية قال حسان رضي الله عنه: فإن تذكير الضمير المستكن في يُصفَّق لرجوعه إلى الماء المضاف إلى بردى وإلا لأنّث حتماً، وإيثارُ الجعل المنبىء عن دوام الملابسة، واستمرارِ الاستقرار على الإدخال المفيدِ لمجرد الانتقال من الخارج إلى الداخل للمبالغة في بيان سدِّ المسامع باعتبار الزمان كما أن إيرادَ الأصابع بدلَ الأنامل للإشباع في بيان سدِّها باعتبار الذات، كأنهم سدُّوها بجملتها لا بأناملها فحسب كما هو المعتاد، ويجوز أن يكون هذا إيماءً إلى كمال حَيْرتهم وفرْطِ دهشتهم وبلوغهم إلى حيث لا يهتدون إلى استعمال الجوارحِ على النهج المعتاد، وكذا الحال في عدم تعيين الأصبع المعتادِ أعني السبابة، وقيل: ذلك لرعاية الأدب، والجملةُ استئناف لا محل لها من الإعراب، مبني على سؤال نشأ من الكلام، كأنه قيل عند بيان أحوالهم الهائلة: فماذا يصنعون في تضاعيف تلك الشدة، فقيل: يجعلون الخ.وقوله تعالى: {مّنَ الصواعق} متعلق بيجعلون أي من أجل الصواعقِ المقارنةِ للرعد، من قولهم سقاه من الغَيْمة، والصاعقةُ قُصفةُ رعد تنقضّ معها شعلة نار لا تمر بشيء إلا أتت عليه. من الصَّعَق وهو شدةُ الصوت، وبناؤها إما أن يكون صفةً لقصفة الرعد أو للرعد، والتاء للمبالغة. كما في الرواية، أو مصدر كالعافية. وقد تطلق على كل هائلٍ مسموع أو مشاهد، يقال: صَعَقَتْه الصاعقة إذا أهلكته بالإحراق، أو بشدة الصوت، وسدُّ الآذان إنما يفيد على التقدير الثاني دون الأول، وقرئ {من الصواقع} وليس ذلك بقلب من الصواعق لاستواء كلا البناءين في التصرف، يقال: صقَع الديكُ، وخطيب مِصْقَع أي مُجهِرٌ بخطبته {حَذَرَ الموت} منصوب بيجعلون على العلة وإن كان معرفة بالإضافة كقوله: ولا ضير في تعدد المفعول له، فإن الفعل يعلل بعلل شتى، وقيل هو نصب على المصدرية أي يحذرون حذراً مثل حذر الموت، والحَذر والحذار هو شدة الخوف، وقرئ {حذارَ الموت}، والموتُ زوال الحياة، وقيل عرَضُ يُضادُّها، لقوله تعالى: {خَلَقَ الموت والحياة} ورُدّ بأن الخلق بمعنى التقدير والإعدام مقدرة {والله مُحِيطٌ بالكافرين} أي لا يفوتونه كما لا يفوت المحاطُ به المحيطَ، شبه شمولَ قدرته تعالى لهم، وانطواءَ ملكوتِه عليهم، بإحاطة المحيط بما أحاط به في استحالة الفوْت، أو شَبَّه الهيئةَ المنتزعة من شؤونه تعالى معهم بالهيئة المنتزعة من أحوال المحيط مع المحاط، فالاستعارة المبنيةُ على التشبيه الأول استعارة تبعيةٌ في الصفة متفرِّعة على ما في مصدرها من الاستعارة والمبنية على الثاني تمثيلية قد اقتُصِر من طرف المشبه به على ما هو العُمدة في انتزاعِ الهيئة المشبَّه بها أعني الإحاطة والباقي منويٌّ بألفاظ متخيَّلةٍ بها يحصُل التركيبُ المعتبر في التمثيل كما مر تحريره في قوله عز وجل: {خَتَمَ الله على قُلُوبِهِمْ} والجملة اعتراضية منبهة على أن ما صنعوا من سد الآذان بالأصابع لا يغني عنهم شيئاً فإن القدَرَ لا يدافعُه الحذر، والحِيَل لا ترد بأس الله عز وجل.وفائدة وضع الكافرين موضع الضمير الراجع إلى أصحاب الصيب الإيذانُ بأن ما دَهَمهم من الأمور الهائلة المحكية بسبب كفرهم على منهاج قوله تعالى: {كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ} فإن الإهلاك الناشىءَ من السُخط أشدُّ، وقيل: هذا الاعتراض من جملة أحوالِ المشبّهِ على أن المراد بالكافرين المنافقون، قد دل به على أنه لا مدفعَ لهم من عذاب الله تعالى في الدنيا والآخرة، وإنما وُسِّط بين أحوال المشبه مع أن القياس تقديمُه أو تأخيره لإظهار كمال العنايةِ وفرطِ الاهتمام بشأن المشبه.
|